هل من الصحيح أن الارتباط طويل الأمد مرتبط بالمجتمعات المحافظه أم أن تكوين البشر يعد الاستقرار العاطفي احد متطلبات الحياه؟

star إجابة مميزة

الزواج، بوصفه علاقة طويل الأمد (long-term relationship)، أحد أكثر الظواهر ارتباطا بالكائنات البشرية وحدهم. فقد عرفت كل الثقافات البشرية، عبر التاريخ الممتد والسحيق، ظاهرة الزواج. ولم يكشف لنا التاريخ المدوّن، على ما يبدو، ظاهرة غياب الزواج والارتباط طويل الأمد في أي حضارة من الحضارات الست المعروفة (حضارة ما بين النهرين، مصر، آزتك الميكسيك، أنكا البيرو، الهند الإمبراطورية، والصين الإمبراطورية). بالتأكيد سجّل لنا هذا التاريخ المدوّن علاقات عابرة وقصيرة الأمد بشكل مفرط، وذلك عن طريق شيوع الدعارة وسهولة الوصول الجنسي (Sexual Accessibility)، خاصة لأولئك الرجال ذوي المكانة الاجتماعية العالية، إلا أن ذلك لم يمنع البشر من استمرار ومواصلة الزواج والرغبة في الارتباط طويل الأمد. والسؤال هنا: لماذا يتزوج البشر؟ لماذا يقدمون على الارتباط بشريك مدى الحياة، أو مدة كبيرة من حياتهم؟

من منظور تطوري evolutionary perspective، التجأ البشر، رجال ونساء، إلى الزواج بغرض حل مشكلات تكيفية واجهها أجدادنا الأوائل خلال رحلة تطورهم الحياتية، تتعلق هذه الحلول فيما يُعرف باستراتيجيات التزاوج (Strategies of Mating). قد يكون أجدادنا قاموا بمحاولات كثيرة، من أجل حل هذه المشكلات التكيفية، أودت بحيوات الكثير حتى استقر بهم الحال إلى الزواج، وجعلهم ينزعون نحو الارتباط طويل الأمد. ثم لاحقا، صارت هذه الحلول بمثابة ميكانيزمات سيكولوجية (psychological mechanisms) أو آليات نفسية توارثناها نحن عن أسلافنا لتؤدي بنا، في نهاية المطاف، إلى النتيجة ذاتها: الإقدام على الزواج والرغبة فيه.

ما هي هذه المشكلات التكيفية؟ ما هي بالنسبة للرجل؟ وما هي بالنسبة للمرأة؟ ما هي استراتيجيات الرجل في حلها؟ وما هي استراتيجيات المرأة في حلها؟ هذا ما سأحاول الجواب عنه في هذه المساحة. مع التدليل، في الأخير، على أن الزواج ظاهرة كونية وليس مرتبطا بمجتمع دون غيره، أو ثقافة دون غيرها.

سأبدأ أولا بالمرأة؛ فكما تقول عالمة الأنثروبولوجيا سارة بلافر هاردي (1981) "فبالأنثى يكون الحكم النهائي لتحديد متى ستتزاوج وبأي وتيرة ومع من". أي أن استراتيجيات المرأة في التزواج يكون لها النصيب الأكبر في تحديد استراتيجات الرجل في التزاوج. فمتى فضّلت المرأة أمرًا، يسعى الرجل إلى امتلاكه. فلو كانت المرأة تنشد علاقة طويلة الأمد، سيؤكد لها الرجل، حتى لو على نحو خادع، بأنه ينشد أيضا علاقة طويلة الأمد. وقد دأب علماء النفس التطوريين، في كتاباتهم، على البدء بما تُفضله المرأة وما لا تُفضّله. وهو ما أقوم به هنا أيضا.

يجادل المنطق التطوري بأن المرأة قد استفادت كثيرا من الدخول في علاقة طويلة الأمد عنه في علاقة قصيرة الأمد. قد يرجع ذلك، في المقام الأول، إلى أن كلفة الدخول في العلاقة قصيرة الأمد، بالنسبة للمرأة، تكون أعلى من كلفة العلاقة طويلة الأمد، حيث أن المرأة تحتاج إلى سنة تقريبا لحمل طفل واحد فقط، الأمر الذي يمكن أن يكون دفع المرأة إلى وضع استراتيجيات صارمة تُرجّح لديها العلاقة طويلة الأمد أكثر من غيرها. وعليه، فثّمة فرضيات عديدة من شأنها أن تُفسّر، على نحو قاصر، ميل المرأة للزواج، بوصفه ارتباط طويل الأمد، وبوصفه حل للتكاليف الناجمة عن العلاقات قصيرة الأمد. نعرض منها ثلاث فرضيات أساسية، على سبيل المثال:

  • الفرضية الأولى: ضمان الحصول على الموارد (ensure access to resources): تعتبر مشكلة توّفر الموارد (من مثل الغذاء والسلع المادية) إحدى أكبر المشكلات التكيفية التي واجهتها الجدّات من النساء الأسلاف. وقد لزم عليهنّ حل هذه المشكلة عبر الحصول على قرين/ شريك يساعدهم في توفير هذه الموارد. لكن ليس كل الشركاء من ترضى بهم المرأة كشريك جنسي وتدخل معه في علاقة تزاوجية طويلة الأمد. وحدهم الشركاء الملتزمين بتعهداتهم بتوفير الموارد والاستثمار فيها هم من يمكنهم الدخول معها في علاقة طويلة الأمد. إن رجلا يفتقر إلى الموارد، أو يفتقر أدوات الحصول عليها، من شأنه أن لا يكون مرغوبا لدى النساء. وإن رجلا يمتلك الموارد، أو يمتلك أدوات الحصول عليها، من شأنه أن يكون مرغوبا لدى النساء. وهذا ما يجعل الرجال، بدورهم، يتنافسون فيما بينهم للحصول على الموارد من أجل زيادة مرغوبيتهم لدى النساء. [يُعرف هذا التنافس فيما بين الرجال بـ intrasexual conflict]. فامتلاك الموارد مؤشر، بالنسبة للمرأة، لحياة آمنة، هادئة، مستقرة. وبالتالي، حصولها على شريك يمتلك موارد كبيرة يُمثّل، بالنسبة لها، حلًّا لمشكلة الحصول على الموارد، مما يجعلها راغبة في الدخول معه في علاقة طويلة الأمد من أجل الاستفادة من تلك الموارد.

  • الفرضية الثانية: تجنّب سوء السمعة (avoiding to damage of reputation): واجهت النساء الأسلاف، في كل المجتمعات التطورية، مشكلة "تلطيخ سمعتهن"، وذلك لسببين رئيسيين: السبب الأول بسبب تأخرهن في الحصول على شريك جنسي، والسبب الثاني بسبب كثرة الشركاء من خلال علاقات قصيرة الأمد. فبالنسبة للسب الأول، تأخر المرأة في الحصول على شريك كان مؤشرًا، بالنسبة لأفراد المجتمع، على وجود شيء ما معيبا، وفاحشا، شيء ما يجعلها غير مرغوبة، وغير صالحة للتزاوج. وبالنسبة للسبب الثاني، كثرة شركاء المرأة ودخولها كثيرا في علاقات قصيرة الأمد كان مؤشرا على عدم التزامها الجنسي لشريك واحد. الأمر الذي أدّى، من خلال هذين السببين/ النهجين، إلى تدمير سمعتها وتقليل فرصها في الزواج. لهذا تطوّرت لدى المرأة ميكانيزمات سيكولوجية (آليات نفسية) تجعلها تميل إلى الدخول في علاقة طويلة الأمد أكثر مما تميل لعلاقة قصيرة الأمد؛ وذلك لتخليصها من مشكلة سوء/ تلطيخ السمعة هذه. إذ إن هذه العلاقة (أي الزواج)، أكثر من غيرها من العلاقات، هي آية على جدارة/ أحقية المرأة بالتزاوج. وربما هذا يتطابق، جزئيا، مع الفرضية القائلة بأن رغبة المرأة في الزواج تكون أعلى من رغبة الرجل في الزواج. فالزواج، تحديدا، هو العلاقة التي تُخلّص المرأة من مشكلة سوء السُمعة.

  • الفرضية الثالثة: الدخول في حلف جديد، عائلة جديدة (added coalitional allies): تقترح هذه الفرضية أن الجدّات الأوائل من النساء قد استفدن كثيرا من الدخول في علاقة طويلة الأمد مع شريك جنسي، وذلك من خلال اكتسابهن شعور الانتماء والقبول في عائلة شريكهنّ. فعبر التاريخ التطوري، النساء اللواتي لم يحصلن على شريك حياة شعرن بالوحدة وعدم الأمان، خاصة بعد فقدان والدهنّ وانشغال أخواتهنّ، بينما النساء اللواتي حصلن على شريك حياة اندمجن في عائلة شريكهن، ومن ثَمَّ اكتسبن حلفًا جديدًا وشعورًا قويًّا بالدعم والحماية المتواصلة. فبزواج المرأة، يكون قد أرست، على نحو كبير، قاعدة أمان لها من بعد غياب والديها وشُغل أخواتها. لهذا تطورت لدى المرأة ميكانيزمات سيكولوجية للشعور بأهمية الحصول على شريك جنسي والدخول معه في علاقة تزاوجية طويلة الأمد بغرض الاندماج في عائلة جديدة بل تكوين عائلة جديدة.

والآن، لننتقل إلى الرجل، لنعرف الأسباب التطورية وراء دافع الرجل في الزواج، ولماذا قد ينشد الرجل علاقة طويلة الأمد برغم الفوائد الكبيرة التي قد يجنيها من العلاقات قصيرة الأمد. ثمة فرضيات عديدة، أيضا، يمكنها أن تقدم جوابا:

  • الفرضية الأولى: زيادة فرصة اجتذاب قرين (increased odds of in attracting a mate): تنهض هذه الفرضية، بشكل أساسي، على فرضية أخرى تقترح أن المرأة أكثر نزوعا نحو التزواج طويل الأمد (long-term mating) عن التزاوج قصير الأمد (short-term mating). بينما يكون الرجل، وعلى العكس من المرأة، أكثر ميلا للتزاوج قصير الأمد، لـ Casual Sex، عنه للتزاوج طويل الأمد. وكما تقترح، أيضا، فرضية "الشك في إمكانية الالتزام" (Commitment-skepticism)، فإن المرأة تبحث عن الشريك الذي يكون مستعدًا للالتزام والتعهّد بالاستثمار فيها هي وطفلها. وبالتالي، فإن الرجال الذين فشلوا في الالتزام وتقديم الإشارات (cues) الدالة على جديتهم في الاستثمار في علاقة طويلة الأمد؛ يمكن أن يكونوا قد عانوا على صعيد انتقائهم في سوق التزاوج، بل والأكثر من ذلك، يمكن أن يكونوا قد فشلوا أصلا في اجتذاب أي امرأة على الإطلاق. إن رجلا يفشل في إبداء الاهتمام بالالتزام لامرأة، يكون قد رسم مصيره معها، على الأرجح، على خسارتها. ولهذا تطورت لدى الرجل ميكانيزمات سيكولجية يكون من شأنها الميل للالتزام والرغبة في دخول علاقة طويل الأمد؛ وذلك بغرض، كما تقترح هذه الفرضية، اجتذاب امرأة، اجتذاب شريكة حياة. (يجدر بالذكر عند هذه النقطة، أن استراتيجيات خداع الرجال للنساء تنهض، على نحو جوهري، على تقديم الوعد بالالتزام وضمانة الحب الأبدي. فالرجال يعلمون جيدا أن النساء لا ترضى بممارسة الجنس معهم إلا بعد التأكد من الإخلاص والوفاء لهنّ. ونتيجة لحالات الخداع على هذا النحو، طوّرت المرأة آلية نفسية لكشف هذا النوع من الخداع، تُعرف هذه الآلية، كما أشرنا إليهاـ بـ"Commitment-skepticism").

  • الفرضية الثانية: زيادة التأكد من الأبوة (increased paternity certainty): إحدى أكثر المشكلات التكيفية التي واجهت الرجال، عبر التاريخ التطوري كله، هي مشكلة "التأكد من الأبوة" (the problem of paternity certainty). هل هذا الطفل ابني؟ هل هؤلاء الأطفال من صُلبي؟ يمكن أن تكون العلاقات القصيرة الأمد وممارسة الجنس بشكل عابر قد فاقمت من هذه المشكلة لدى الرجال الأسلاف، وصعّبت عليهم إمكانية استثمار مواردهم في هؤلاء الأطفال. يوّفر الزواج، عوضا عن ذلك، زيادة التأكد من الأبوة، لزيادة الحصول على الجنس بشكل متكرر وبشكل حصري. فمن دون هذا الحصول المتكرر والحصري للجنس، من خلال الزواج، سيتعرّض تأكد الرجل من أبوته إلى الخطر. لهذا تطوّر لدى الرجل ميكانيزم نفسي يخلق فيه الدافع إلى الزواج بغية حسم مشكلة التأكد من الأبوة هذه، ويجعله يستثمر موارده في أطفاله على نحو آمن وأكيد.

  • الفرضية الثالثة: زيادة المكانة الاجتماعية (increased social status): من بين الفوائد التي ينشدها الرجل في الزواج هي اكتساب حلف جديد، تماما مثل المرأة، لكن اكتساب الرجل لحلف جديد عن طريق عائلة زوجته، يكون بغرض زيادة المكانة الاجتماعية له، بينما دخول المرأة في حلف جديد عن طريق عائلة زوجها، كما رأينا، يكون بغرض الحصول على الحماية والشعور بالأمان والرعاية لها. الرجل يبحث عن المكانة، عن السلطة، بينما تبحث المرأة عن الحماية، عن الأمان. كما أن زواج الرجل، كما تبين المسوح الاستقصائية، من شأنه أن يرفع من درجته (رتبته) في مكان العمل، فكثيرا من الوظائف تطلب، حتى على نحو غير موجّه، رجال متزوجين. فضلا عن أن العديد من الثقافات، لا تعتبر الذكور أنهم وصلوا إلى الرجولة الحقة إلا بعد أن يتزوجوا. وعليه، فإن هذه الفرضية تقترح بأن الرجل بما أنه يهدف، دومًا، إلى زيادة مكانته الاجتماعية ويسعى إليها؛ فإنه يستقصي السُبل المؤدية إليها. ومن بين تلك السُبل هي: الزواج. فقد تطوّر لدى الرجل، تبعًا لذلك، ميكانيزمات سيكولوجية جعلت من الزواج أمرًا مرغوبًا ومُحببًا له لأنه يزيد، على الأرجح، من مكانته الاجتماعية، ويؤكد على وصوله إلى الرجولة، وذلك تبعا لهذه الفرضية.

الزواج، إذن، بما أنه علاقة طويلة الأمد، كان بمثابة أحد الحلول الممكنة لمشكلات تطورية، واجهها الأجداد الأوائل من الرجال والجدّات الأوائل من النساء. قد يكون هذا المنظور لم يأتِ على ذكر الدين أو أي إطار آخر يحتفي بالزواج ويدعو له، إلا أنه، وعلى الرغم من ذلك، يقدم طرحًا جديًّا يناهض الحفاوة الشائعة بالعلاقات قصيرة الأمد، والممارسات الجنسية العابرة، والتي تجد لها رواجًا قويًّا في ثقافتنا الاستهلاكية المعاصرة. ليؤكد ذلك المنظور التطوري، عوضا عن ذلك، أن الزواج لم يكن أبدًا مرتبطا بثقافةٍ دون غيرها، ولا عصرٍ دون غيره، بل إنه يضرب بجذوره الممتدة في التاريخ السحيق لتطورنا البشري.

أضف إجابتك

cloud_upload

جار الرفع... ({{imageUpload.progress}})

أرسل إجابتك كعضو
أرسل إجابتك كزائر

اطرح سؤالك على مجتمع التعلم واحصل على أجوبة من خبراء

الإشعارات

أغلق
جار تحميل المزيد
لا توجد إشعارات