لماذا توجه الأطباء النفسيين في العالم إلي أن المثليه الجنسية ميولا طبيعية رغم أنها في الماضي كانت تُشخص اضطرابا ؟ وهل للتغيرات الاجتماعية في العالم الغربي أثر في تمدد الظاهره هذه ؟
في السنوات الأخيرة تمددت ظاهرة المثليين جنسياً في العالم الغربي ويتبعها في ذلك العالم العربي ، وأضحت هناك أصوات كثيره تنادي بحقوقهم كأناس طبيعيين ، السؤال هنا هل المثلية أمر طبيعي ؟ ما أساسها في علم النفس ؟ ولماذا كان تعد انحرافا أخلاقيا من قِبل المجتمعات واضطرابا من قبل الأطباء النفسيين وفي الآونه الأخيرة أصبح الأمر طبيعيا ؟ وهل للتغيرات الاجتماعية والسياسية أثر في تمدد هذه الظاهرة ؟
المثلية الجنسية كمشكلة علمية
عام 1952، صدر "الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية"، وهو المرجع الأبرز في مجال الطب النفسي ويصدر عن رابطة الطب النفسي الأمريكية، وقد تضمن الإشارة إلى المثلية الجنسية ضمن مجموعة من الاضطرابات تسمى البارافيليا، وهي تعني الميل الجنسي تجاه شيء لا يفترض أن يثير الشعور الجنسي للإنسان، كأن يثار الإنسان جنسيا من حجر أو حيوان مثلا.
في عام 1973، قادت حركات الميم LGBTs تظاهرات قوية ضد رابطة الطب النفسي الأمريكية، وتحت ضغوطها، وليس بسبب أي اكتشافات علمية جديدة، تم حذف المثلية الجنسية المحضة من الدليل بوصفها ليست مرضا عقليا، لكن تم استثناء نوع واحد منها هو الاضطراب الجنسي ضد الأنوي Egodystonic Sexual disorder، أي الاضطراب الجنسي نتيجة تعارض ميل الإنسان الجنسي مع صورة الأنا المثالية لديه، مما يجعله يشعر بالقلق والتوتر والضغط. فالمثلية الجنسية ليست مرضا إلا إذا كان صاحبها لا يشعر بالارتياح معها ويود تغيير ميوله. وهذا الاضطراب ضد الأنوي نفسه تم حذفه من الدليل عام 1987.
المشكلة في هذا الحذف الأخير أنه لم يؤكد أن المثلية الجنسية هي نوع طبيعي من الميل الجنسي فحسب، بل أنه مهّد إلى المنع القانوني أو المهني للعلاج التحويلي Conversion Therapy، أي محاولات العلاج التي تهدف إلى تحويل المثلي حنسيا إلى غيري جنسيا، حتى بموافقة المتلقي، باعتبار أنها نوع من الممارسة الدجلية التي قد تضر من يخضع لها.
المشكلة في تصنيف المثلية الجنسية كمرض نفسي أو كميل طبيعي هي مشكلة ترجع إلى فلسفة الطب النفسي وليس فقط إلى المعطيات العلمية والاجتماعية، فكثير من الأمراض والاضطرابات النفسية والسلوكية والشخصية هي أنماط من الميول والسلوك ليس لها أساس عضوي حاسم، وإنما يتم اعتبارها انحرافا نتيجة تأثيرها على حياة صاحبها بالسلب، سواء لأنها تصيبه بالتوتر بما يعيقه عن الحياة السوية، أو على علاقاته بالآخرين وقدرته على بناء علاقات سوية تجاههم. لنأخذ مثلا اضطرابا للشخصية كاضطراب الشخصية النرجسية، إذا كان حب الذات لا يعد في حد ذاته اضطرابا، بل والأنانية والكِبر لا يمكن اعتبارهما بمجردهما اضطرابا، فلماذا نعد اضطراب الشخصية النرجسية مرضا عقليا؟ لا يمكن تبرير ذلك إلا بمبررات اجتماعية وإنسانية ترجع إلى صورة الحياة السوية التي تعرفها البشرية. لنأخذ مثلا ميل الإنسان الجنسي إلى الحيوانات أو إلى الأطفال، ما الذي يختلف فيه هذا الميل عن الميل المثلي ليتم اعتبار مثل تلك الميول انحرافات بينما لا يمكن اعتبار المثلية كذلك إلا إذا كان الأمر يرجع إلى تصورنا لما هي الحياة السوية.
لنأخذ خطوة أبعد من ذلك في فلسفة الطب بعامة، لدينا بعض الاضطرابات الهرمونية تؤثر على تكوين الإنسان كمتلازمة ضخامة الأطراف Acromegally بسبب فرط هرمون النمو. ما الذي يجعلنا نرى أن ضخامة الأطراف هي عرض مرضي وأن فرط هرمون النمو هو انحراف عن الطبيعة وليس تنوعا فيها. إن الأمر يرجع إلى الصورة السوية للفيسيولوجيا البشرية التي تكونت لدينا عبر قرون من عمر البشرية.
بالتالي ما يجعلنا نحدد المثلية بوصفها مرضا أو إعاقة هو في جانب عظيم محددات اجتماعية وثقافية أكثر منها محددات علمية، حتى وإن ظهر لنا لاحقا أن المثلية لها أسباب عضوية محددة، كتركيب جيني أو خلل هرموني معين أو نحو ذلك. فلا يمكن لمؤيدي المثلية الجنسية أن يستدلوا بحذفها من الدليل على أنه اعتراف علمي بأنها مجرد تنوع طبيعي، ولا يمكن لنقاد المثلية الجنسية إثبات أنها انحراف مرضي كذلك.
المثلية الجنسية كمشكلة ثقافية
وفقا للدراسات العلمية المتاحة لدينا إلى الآن، فالميل الجنسي سواء المثلي أو الغيري ليس نتيجة عامل واحد، وإنما ينشأ من خلال تضافر مجموعة من العوامل الجينية والهرمونية والبيئية، كما أنه ليس اختياريا، فالإنسان المثلي غالبا لم يقرر أن يصير مثليا، وإنما وجد نفسه كذلك.
لكن إذا كان ذلك ينطبق على المثلي السالب، أي المفعول به، فهل ينطبق على المثلي الموجب، أي الفاعل؟ من الصعب قول ذلك، فغالبا يمكن لأي ذكر أن يستمتع جنسيا بممارسة الجنس إيجابيا مع ذكر آخر، وبالتالي هناك بعد اختياري في الأمر. كما أن أي أنثى ستستمتع بممارسة الجنس مع أنثى مثلها تماما كما تستمتع أي أنثى بالاستمناء حتى وإن كانت ذات ميل غيري.
هنا نأتي للشق الثاني من السؤال، وهو: هل التغيرات الاجتماعية والثقافية أدت إلى تمدد الظاهرة؟
يمكننا الإجابة بنعم، وذلك بمعنيين مختلفين:
أولا، أن الدعم الثقافي والاجتماعي والسياسي للمثليين جعل بعض المثليين الذين كانوا يعملون لإخفاء ميلهم المثلي أو يحاولون تغييره واعتياد الجنس الغيري، يتمكنون من إبداء وتأكيد ميلهم المثلي دون شعور بالخجل أو الخوف، مما أعطى شعورا بتمدد أو زيادة عدد المثليين، رغم أن هناك نسبة من البشر هم مثليون بالتأكيد في كل المجتمعات، لكن نسبة كبيرة منهم تخفي ذلك الميل. لذلك نلاحظ في استطلاعات جالوب في الولايات المتحدة أن من يصفون أنفسهم بأنهم ينتمون إلى مجتمع الميم LGBT زاد من 5.8% عام 2012 إلى 8.2% عام 2017.
ثانيا، يرى المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري أن انتشار الجنس المثلي على حساب الجنس الغيري مرتبط بظاهرة ما بعد الحداثة أو التحول الثقافي في الحضارة الغربية نحو اعتبار اللذة هي المعيار والغاية الأعلى للإنسان، وبالتالي يمثل الجنس المثلي فرصة أفضل للذة بدون مسئولية وذلك لكونه لا يرتبط بمسئوليات الزواج والإنجاب. ونلاحظ أن نحو هذا التفسير يردده مفكرون من خلفية ليبرالية لا من خلفية محافظة كالدكتور المسيري ولكن على نحو مختلف، فعالم الاجتماع البريطاني أنطوني جيدنز يطرح في كتابه "تحولات الحميمية" (1993) أن انتشار الجنس التجميلي Plastic Sex وهو الجنس لمجرد المتعة دون أي أهداف أخلاقية أخرى كالتناسل أو تكوين الأسرة، هو إنجاز ديمقراطي للمجتمع ما بعد الحديث الذي يسميه جيدنز مجتمع الحداثة التأملية أو الحداثة الفائقة.
لذلك، قد نفهم أن يتجه كثير من الشباب الباحث عن اللذة إلى ممارسة الجنس مع ذكور مثلهم أو أن تتجه فتيات لممارسة الجنس مع إناث مثلهن، للتخلص من المسئوليات والصعوبات المرتبطة بالعلاقات الغيرية، كما أن ممارسة الجنس المثلي تمثل خبرة مختلفة قد يتجه رجال ونساء إليها نتيجة الملل من الجنس الغيري بعد أن صار سهلا وتم اعتياده بكثافة، فالرجل الذي يصادق كثيرا من النساء قد يمل من الجنس الغيري، ويسعى إلى الجنس المثلي كخبرة جديدة في الاستمتاع الجنسي.