هل يحتاج المرء بالفعل إلى الانتماء إلى كيان ما، أو وطن؟ وهل هذا الاحتياج فطري أم يمكن التخلي عنه؟


يقول الفيلسوف الفرنسي سارتر أن الآخرين هم الجحيم، فلماذا يحرص الإنسان على بناء علاقات اجتماعية بمن حوله والانتماء إلى جماعة معينة؟ لماذا لا يعيش الإنسان متحررا من تلك القيود والسلطات الاجتماعية والثقافية التي قد تقهره وتقيد حريته؟

في رواية "الغريب" للروائي الفرنسي ألبير كامو، يعيش مورسول، بطل الرواية، حياة تبدو تقليدية، فهو موظف فرنسي يعيش في الجزائر، ليس فيه ما يثير الريبة سوى ذلك الجمود الشعوري الذي يحمله تجاه الآخرين. لا يفتقد مورسول لصلات تجمعه بأسرته، بل وبجيرانه أو بزملائه في العمل، لكنها لها صلات بلا مشاعر. في البداية، يعلم مورسول عن وفاة والدته التي لم تكن تقيم معه. يحضر مورسول الجنازة كما يفترض به اجتماعيا، لكنه لا يشعر بالحزن كما كان ينبغي، ولا يهتم حتى برؤية أمه قبل دفنها، فقط يقضي أمام جثمانها ليلته وهو يدخن. يقيم علاقة مع ماري، زميلته في العمل، لكنه لا يكن تجاهها أي شعور بالحب. أخيرا، يطلق النار على مجموعة من الشباب العربي دون داعٍ يستحق ذلك، بل إنه يطلق النار على الجثث حتى بعد موتها دون شعور حتى بالكراهية. ينتهي به الحال في السجن، وفي انتظار حكم أكيد بالإعدام، لكن تظل شخصية مورسول مجردة من أي شعور بالذنب أو الحزن أو الخوف، فقط بالضيق لأنه محروم من الاستمتاع مع صديقته ماري.

لا يعيش مورسول حياة سوية، ليس لأنه يفتقد إلى صلات اجتماعية تقليدية، بل لأنه يفتقد إلى شعور بالانتماء إلى من تجمعهم به تلك الصلات، مما يفقده القدرة على الشعور بما يحدث حوله، بل يفقده القدرة على التفكير السليم والحكم العقلاني على الأمور، مما يجعله إلى إطلاق النار أربع مرات على شخص بلا دوافع حقيقية.

فقد نتخيل أحيانا أن قولنا أننا بحاجة إلى الحب أو الانتماء أو الشعور بالاهتمام من الآخرين وتجاه الآخرين هي كلها مقولات رومانسية خيالية، لكن تاريخ علم النفس لا يوافق تلك المقولة. فمنذ عام 1943، عندما قدم عالم النفس الامريكي أبراهام ماسلو بتقديم هرمه الشهير عن حاجات الإنسان ودوافعه، صار هما أساسيا في علم النفس دراسة الحاجة إلى الانتماء Belongingness لدى الإنسان.

الانتماء حاجة إنسانية أساسية

حاول أبراهام ماسلو Abraham Maslow أن يقدم مدخلا مختلفا في دراسة الدوافع الإنسانية. فما كان رائجا في علم النفس بهذا الصدد، هو دراسة الانحرافات المرضية، وتحديد الدوافع السوية بناء عليها، كما نجد في دراسة فرويد للعصاب الذي تولدت منها نظريته في الجنس بوصفه الغريزة الإنسانية الأساسية. لكن ماسلو ومعه تيار السيكولوجيا الإنسانية Humanistic Psychology رأوا أن دراسة علم النفس يجب أن تنطلق من اعتبار تحقيق الذات self-actualization هي الغاية الكبرى لدى الإنسان.

رأى ماسلو أن هنالك خمسة أصناف من الحاجات الإنسانية، وهي ليست حاجات متوازية، وإنما متراتبة، فيجب أن يتحقق كل مستوى منها قبل أن يهتم الإنسان بقضاء الحاجة التالية، وهذه الأصناف هي:

  • الحاجات البيولوجية أو السيكولوجية، ويمكن أن نسميها أيضا "الحاجات الغريزية"، كالهواء والماء والطعام والكساء والمأوى، والجنس.

  • حاجات الأمان: وتشمل تلك الحاجات، الأمان الشخصي والمالي، والسلامة الجسدية، وهي الحاجات التي يفقدها الإنسان في بعض الظروف الاجتماعية كحالات الحرب.

  • الانتماء الاجتماعي أو الحب: رأى ماسلو أن بمجرد إشباع الحاجات البيولوجية والشعور بالأمان، يحتاج الإنسان إلى الشعور بالانتماء أو الحب سواء في دوائره الصغيرة، كالأسرة والأصدقاء والزوج، أو الدوائر الكبيرة، كالجماعة الدينية أو الثقافية التي ينتمي إليها. فالانتماء هنا لا يعني الانتماء إلى الوطن أو الأمة أو الجماعة الثقافية، بل أيضا الشعور بالانتماء تجاه المقرّبين. ولا تعني الحاجة إلى الحب كذلك مجرد الحاجة إلى حب الزوج أو الأسرة أو الأصدقاء، وإنما أيضا حب الوطن أو شركاء الطريقة الدينية أو النادي أو المنطقة. ويؤدي الافتقاد إلى الانتماء أو الحب إلى أمراض نفسية كالقلق أو الاكتئاب.

  • التقدير: يحتاج الإنسان إلى الشعور بالقيمة أو التقدير سواء من قبل نفسه أو من قبل الآخرين. فأولا، يحتاج الإنسان إلى التقدير والاحترام من قبل الآخرين، وهو ما أطلق عليه ماسلو النسخة الدنيا من الحاجة إلى التقدير. أما النسخة العليا فهي الحاجة إلى التقدير الذاتي self-esteem ويعني ذلك حاجة الإنسان إلى الثقة بالنفس والشعور بقيمة نفسه وتميزها. ويؤدي الافتقاد إلى ذلك إلى الشعور بالدونية أو مركب النقص.

  • تحقيق الذات: وهو الغاية الكبرى للإنسان بأن يحقق كل نجاح يمكنه تحقيقه.

كما قلنا، يرى ماسلو أن العلاقة بين تلك الحاجات علاقة تراتبية أو هرمية، مما يعني أن كل مستوى من تلك المستويات هو شرط لتحقيق ما يليه، ما يعني أن الانتماء أو الشعور بالحب من الآخرين هو شرط لشعور الإنسان بالتقدير والقيمة، وأخيرا قدرته على تحقيق ذاته، وافتقاده لتلك الحاجة الأساسية، يعني فشله في الحصول على التقدير وتحقيق ذاته، أي فشله في تحقيق أي نجاح في حياته، أو العيش حياة سوية.

لكن رغم كفاءة النموذج الذي قدمه ماسلو، وُجهت انتقادات إلى المنهج الذي انتهجه ماسلو في الوصول إليه. اعتمد ماسلو على تحليل السير Biographical Analysis لشخصيات شهيرة رأى أنها نجحت في تحقيق ذاتها كتوماس جيفرسون وبيتهوفن وغاندي. وهو ما اعتبره نقاده غير كاف علميا.

لكنّ عدة دراسات علمية كانت قد قدمت لاحقا بخصوص الحاجة إلى الانتماء أو الحب وأثره على بنية الإنسان النفسية والسلوكية. وقد جمع عالما النفس الأمريكيان روي بوميستر R. Baumeister ومارك ليري M. Leary (1995) عددا من تلك الشواهد العلمية عن الانتماء كحاجة إنسانية أساسية.

فيشير الباحثان إلى أن الانتماء لا يمكن اعتبار الانتماء حاجة أساسية لدى الإنسان إلا إذا كانت الصلات الاجتماعية تنشأ بسهولة بمجرد الاجتماع، وهو ما يحدث بالفعل. فأكثر من تجربة تكشف أن مجموعة من الأفراد ينشأ بينهم شعور بالانتماء إلى بعضهم بسرعة وبمجرد التقارب. ففي تجربة كهف روبرز مثلا، يتم تقسيم مجموعة من الأطفال الغرباء إلى مجموعتين متنافستين، وبالفعل بدأت تنشأ مشاعر تقارب بين أعضاء المجموعة الواحدة ومشاعر نفور تجاه المجموعة المنافسة. وفي المرحلة الثانية عندما تم جمع المجموعتين في مجموعة واحدة متعاونة على مهام مشتركة، تنشأ صلات جديدة بين الأطفال بحسب المجموعة الجديدة.

قام باحث لبناني بتكرار التجربة مع مجموعة أطفال لبنانيين، 5 مسيحيين و4 مسلمين، فانقسموا إلى مجموعتين هم الشبح الأزرق، والجني الأحمر، فانقسم الأطفال وتصارعوا، ولكن ليس كمسلمين ومسيحيين، بل كأزرق ضد أحمر.

تنشأ الصلات بسهولة بينما تنقطع بصعوبة. فقد دلّت عدة دراسات على أن المجموعات التي تتكوّن بينما من المنتظر أن يتم تفكيكها سريعا، كمجموعات التدريب مثلا، يرفض أعضاؤها قبول واقعة أن الصلات بينهم محدودة بزمن محدد، وأنهم سرعان ما سينفصلون. كذلك نجد أنفسنا مثلا حريصين على علاقات رغم حنقنا على شركائنا فيها، كحرص بعض الأزواج على أزواجهم الذين لا يحبونهم/ن.

ماذا يعني عمليا كون الانتماء حاجة إنسانية أساسية؟

  1. الانتماء رابطة فعلية لا مجرد شعور: يشير بوميستر وليري في دراستهما إلى أن الانتماء هو مركب من مكونين. فأولا يجب أن يشعر الإنسان بمشاعر إيجابية تجاه الآخرين، لكن مجرد ذلك لا يكفي، فلا بد أن يكون هذا الاهتمام متبادل، فالحب من طرف واحد مثلا لا يحقق الإشباع. أما المكون الثاني فهو الاتصال، فلا يكفي وجود مشاعر متبادلة بين طرفين ليتحقق الشعور بالانتماء، بل لا بد كذلك من أن يؤدي إلى ذلك إلى تواصل فعال بينهما. يلفتنا ذلك المكون إلى البعد المادي في موضوع الانتماء، فالانتماء لا يتحقق بمجرد المشاعر والتفضيلات، ولكن لا بد من وجود روابط اجتماعية فعلية لينشأ الشعور بالانتماء.

  2. الانتماء يساعد على الإنجاز: عندما نشعر بأننا نعمل في أوساط ننتمي إليها، أو أننا نعيش في مجتمعات ننتمي إليها وتحتضننا، فإن ذلك يساعدنا على الإنجاز. فالطلاب السود مثلا في الولايات المتحدة يتأثرون دراسيا أكثر من الطلاب البيض سلبا وإيجابا بوجود زملاء لهم في نفس الوسط الأكاديمي أو بكونهم مقبولين في الوسط الأكاديمي الذي يدرسون فيه أو غير مقبولين. (Walton & Cohen, 2007)

  3. الإنصاف والانتماء: يشعر الأشخاص بالانتماء إلى الجماعات التي يشعرون فيها بالإنصاف، لذلك يعتبر الإنصاف أداة للحفاظ على الانتماء. لكن في المقابل، يبدي الأشخاص حرصا أكبر على تحقيق العدالة والإنصاف مع الآخرين الذين ينتمون إلى نفس الجماعة التي ينتمون إليها، أكثر من حرصهم على ذلك مع أفراد الجماعات الأخرى. لذلك يمكننا أن ننظر إلى الانتماء كأحد سبل ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف، مما يدعو إلى إعادة النظر في التصورات السياسية التي قد ترى في فصل الأفراد ضمانا لحقوقهم. (van Prooijen et al, 2004)

  4. الامتثال ونشر القيم: يؤدي الانتماء إلى نوعين من الامتثال الفردي للمجتمع: الامتثال المعلوماتي، حيث يميل الفرد إلى قبول قراءة جماعته أو مجتمعه لقضية معينة. وكذلك الامتثال القيمي، حيث يحرص الأفراد على أن يكون سلوكهم مقبولا قيميا من قبل شركائهم في المجتمع. يمكننا لذلك أن نرى دور الانتماء في التنشأة الاجتماعية وبناء قيم الأفراد وتوجيه سلوكهم. (Cialdini & Goldstein, 2004)

ماذا يحدث عند فقدان الانتماء؟

إذا كان فقدان الانتماء يؤدي من وجهة نظر سيكولوجية إلى أمراض نفسية كالقلق والاكتئاب، فإنه يؤدي من وجهة نظر سوسيولوجية إلى "الاغتراب Alienation" الذي يعتبر ظاهرة متعددة المستويات تبدأ من عجز الفرد من بناء علاقات اجتماعية سوية والاندماج في المجتمع، وصولا إلى شعور الإنسان بأنه غريب حتى عن نفسه.

وقد نظر الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع الحديث جميعا كماركس وتونيز ودوركايم وفيبر إلى الاغتراب بوصفه أخطر الظواهر الاجتماعية الحديثة. فالمجتمع الحديث الذي يفقد فيه الإنسان روابطه الطبيعية، وتقوم العلاقات فيه على المنفعة المادية، يعاني فيه الإنسان اغترابا، قد يصل إلى فقدانه لذاته بسبب فقدانه للقيم والمعاني الإنسانية.

وقد قدّم عالم الاجتماع الأمريكي ميلفين سيمان الدراسة الأشمل في تعريف الاغتراب، حيث قسمه إلى خمسة أنوع:

  1. اللا-قوة Powerlessness: وهو لا يعني فقدان القدرة فحسب على تحقيق الإنسان ما يحتاج إليه، بل اضطرار الإنسان إلى السعي بخلاف إرادته، كحالة العامل في النظام الرأسمالي الذي يعمل لمصلحة غيره، أي لمصلحة صاحب العمل.

  2. اللا-معنى Meaninglessness: يعني شعور الفرد بعدم ضمان جدوى سلوكه أو فقدانه القدرة على توقع نتيجة سلوكه. يقصد سيمان بذلك أن تجريد الإنسان من القوة أو القدرة على السعي نحو مصالحه وبلوغها يجعله يشعر بأن سلوكه بلا جدوى، وبالتالي فلا معنى لعمله.

  3. اللا-معيار Normlessness: فقدان الإنسان للقيم التي تحدد له الصواب والخطأ وتوجه سلوكه، وهو ما أطلق عليه دوركايم "الأنومي Anomie".

  4. العزل Isolation: وهو شعور الإنسان بعدم انتمائه إلى المجتمع الذي يعيش فيه ونفوره منه.

  5. الفصام الذاتي self-estrangement: ويعني أن ينظر الإنسان إلى نفسه باعتباره غريبا. يحاول عالم الاجتماع الأمريكي الشهير كريستيان رايت ميلز شرح تلك الحالة بمثال فتاة المبيعات، التي تضطر إلى التخلي عن شخصيتها في سبيل إرضاء العميل إلى درجة أن تصبح غريبة عن نفسها.


المراجع بحسب ترتيبها في النص:

McLeod, Saul (2017) Maslow's Hierarchy of Needs. Simple Psychology.

https://www.simplypsychology.org/maslow.html

R. Baumeister and M. Leary (1995) The Need to Belong: Desire for Interpersonal Attachments as a Fundamental Human Motivation. (Psychological Bulletin, 1995, Vol. 117, No. 3, 497-529)

http://persweb.wabash.edu/facstaff/hortonr/articles%20for%20class/baumeister%20and%20leary.pdf

G. M. Walton and G. L. Cohen (2007) A Question of Belonging: Race, Social Fit, and Acheivement. (Journal of Personality and Social Psychology, 2007, Vol. 92, No. 1, 82-96)

http://citeseerx.ist.psu.edu/viewdoc/download?doi=10.1.1.320.7960&rep=rep1&type=pdf

van Prooijen, J. W., van den Bos, K., & Wilke, H. A. (2004) Group belongingness and procedural justice: social inclusion and exclusion by peers affects the psychology of voice. (Journal of Personality and Social Psychology, 87(1), 66)

https://pdfs.semanticscholar.org/2b37/6e2338409377f0ca8d2d2e65457bf67a12f1.pdf

Cialdini, R. B., & Goldstein, N. J. (2004) Social Influence: Compliance and Conformity. (Annual Review of Psychology, 55(1), 591-621)

http://www2.psych.ubc.ca/~schaller/Psyc591Readings/CialdiniGoldstein2004.pdf

Seeman, Melvin (1959) On The Meaning of Alienation. (American Sociological Review, Vol. 24, No. 6 (Dec., 1959), pp. 783-791)

أضف إجابتك

cloud_upload

جار الرفع... ({{imageUpload.progress}})

أرسل إجابتك كعضو
أرسل إجابتك كزائر

اطرح سؤالك على مجتمع التعلم واحصل على أجوبة من خبراء

الإشعارات

أغلق
جار تحميل المزيد
لا توجد إشعارات