يكثر الحديث عن هشاشة العلاقات بأنواعها في المجتمع الحديث، فهل هي بالفعل ذلك، أم أنها ظاهرة مبالغ في وصفها بسبب مواقع التواصل الاجتماعي وكثرة عرض المشكلات والمواقف الشخصية؟
في عام 1841، كتب الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إميرسون Ralph Waldo Emerson مقالته المثيرة للجدل "الاعتماد على النفس Self-Reliance" التي ينتقد فيها مفاهيم الإحسان أو الصدقة philanthropy. يكتب إميرسون في تلك المقالة: "لا تحدثني كما فعل رجل صالح اليوم عن واجبي في تحسين أوضاع الفقراء؛ فهل هم فقرائي أنا؟". يرى إميرسون أنه لا تجمعه رابطة بسائر أفراد مجتمعه، وأنه غير مسئول تجاههم، ويقول: "إنني أنقم كل دولار وكل سنت، أعطيه إلى مثل هؤلاء الذين لا ينتمون إلي ولا أنتمي إليهم". كان من الواضح أن التحول من المجتمعات التقليدية نحو المجتمعات الصناعية المتقدمة يصاحبه زيادة النزعة الفردانية، حيث يفقد الفرد الروابط التي تجمعه بجيرانه وأقربائه ورفاقه، لينشغل فحسب بحياته الخاصة وبمن تجمعهم به علاقة مباشرة كأفراد أسرته الصغيرة.
ظهرت لذلك معالجات عديدة للتحول في طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية الحديثة في القرن التاسع عشر، حيث يسود الإنتاج الصناعي ويزيد عدد سكان المدن بينما يتراجع عدد سكان الريف.
تفكك المجتمعات التقليدية
تعتبر أطروحة عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيز Ferdinand Tonnis من أقدم الأطروحات التي رصدت وحللت تلك الظاهرة. يميز تونيز بين نمطين من الاجتماع: الجماعة Gemeinschaft/Community، والمجتمع Gesellschaft/Society. (تونيز، 1887)
في الجماعة التقليدية، كالعائلة والقبيلة، تحكم المجتمع علاقات شخصية مباشرة، كعلاقات القرابة والمصاهرة والجيرة. أما في المجتمع الحديث، فتكون العلاقات غير مباشرة، محكومة بتعاقد ضمني لا بعلاقات شخصية، مثلا كعلاقات العمل أو الالتزام القانوني. وقد أعاد عالم الاجتماع الألماني الأبرز ماكس فيبر Max Weber تناول تلك الثنائية، مشيرا إلى أن العلاقات في الجماعة التقليدية تمتاز بكونها "مِزَاجية affectual" أو متعلقة بالمشاعر الشخصية، بينما تقوم العلاقات في المجتمع الحديث على الحسابات العقلانية. (فيبر، 1921)
بالتزامن مع أطروحة تونيز، ظهرت أطروحة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم Emile Durkheim الذي يرى أن المجتمعات التقليدية كانت تتمتع بقيم مشتركة ومشاعر مشتركة كذلك، مما يحقق ما أطلق عليه دوركايم "تضامنا ميكانيكيا mechanical solidarity"، وقد لعب الدين الطوطمي (نمط من الوثنية) دورا في تحقيق ذلك التماسك الاجتماعي. أما المجتمعات الحديثة فهي برأي دوركايم تقوم على تقسيم العمل بين الأفراد (ظهور الاختصاص المهني، فهنالك الطبيب مثلا والعامل والمهندس والمعلم... وهكذا)، وهو ما يخلق نوعا من التعاون والاعتماد المتبادل، ما يحقق "تضامنا عضويا organic solidarity"، أي أن المجتمع فيها يشبه الكائن الحي الذي يقوم كل عضو من أعضائه بمهمة محددة. (دوركايم، 1893)
يعترف دوركايم بأن الانتقال من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الصناعية المتقدمة تصاحبه ظواهر سلبية كظاهرة "اللامعيارية anomie"، ويعني دوركايم بذلك افتقاد الإنسان لتوجيه أخلاقي بسبب فشل المجتمع الحديث في تأسيس أخلاق اجتماعية، أو بتعبير دوركايم: تحقيق التضامن العضوي. (دوركايم، 1893)
يؤثر كل ذلك على إمكانية تأسيس الإنسان لعلاقات اجتماعية طبيعية. فكما يبين دوركايم في دراسته الرائدة عن الانتحار التي يرى فيها أن أحد أنواع الانتحار في المجتمعات الحديثة هو "الانتحار الأنوي egoistic suicide" الذي يتسبب فيه برأي دوركايم، "الفردانية المفرطة excessive individuation" التي قد يتسبب فيها تقسيم العمل وانهيار الروابط التقليدية التي كانت قائمة في المجتمعات القديمة. (دوركايم، 1897)
مجتمع المعلومات
شهدت المجتمعات الأوروبية في الستينات تمردا عاما من الشباب على القيم الاجتماعية. مثلا، تحكي الروائية الكندية نانسي هيوستن في كتابها "أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي" عن ظاهرة "أطفال الرفض الشامل" (عنوان وثائقي للمخرجة مانون باربون، إحدى أبناء الظاهرة). نشأت تلك الظاهرة عن رفض مجموعة من الفنانين للمؤسسات الاجتماعية التقليدية كالمدرسة والكنيسة، وحتى للزواج والأسرة، فعاشوا حياة جنسية حرة، أنجبت أطفالا بلا أسر، لم يجدوا من يربيهم بعدما تخلى عنهم آباؤهم سوى الكنيسة.
في هذا الإطار، كتب كريستوفر لاش، المؤرخ والناقد الأمريكي ذائع الصيت، عمله الرائد "ثقافة النرجسية" (1979). يرى لاش أن المجتمعات الرأسمالية أنتجت أفرادا ذوي بنية شخصية نرجسية، فهم يهربون من أي علاقة تحتاج إلى الالتزام أو المسئولية، ويعشقون الشهرة والمتع السريعة. كان ذلك يمهد للدخول في تحول تاريخي. شهد العالم منذ السبعينات تحولا تسبب فيه ثورة المعلومات والتكنولوجيا، مع ظهور الكومبيوتر والإنترنت والأقمار الصناعية، وغيرها من أدوات الاتصال التي أدت إلى انتشار الثقافة الغربية حول العالم (العولمة).
صاحب ذلك زيادة أكبر في الفردانية مع تحرر المرأة وخروجها للعمل، وارتفاع نسب الطلاق، وانشغال الفرد بعوالم افتراضية تخلقها الفيديو جيمز ووسائل التواصل الاجتماعي عن حياته الاجتماعية. أدى ذلك إلى ظهور تيار واسع عرف بتيار "ما بعد الحداثة Post-modernity" رأى أننا أمام نمط جديد من المجتمعات يختلف عن المجتمعات الصناعية التي عرفناها في النصف الأول من القرن العشرين. لكن عددا من علماء الاجتماع قدموا حديثا معالجات أخرى لتلك التطورات وأثرها على العلاقات الاجتماعية. (جيمسون، 1991)
(1) الحداثة السائلة
يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان Zaygmunt Bauman أن الحداثة تحث الإنسان على الرشاد العقلاني في علاقاته، أي بأن يتعامل مع علاقاته الاجتماعية بمنطق حسابات المصالح. قام عالم الحداثة مع ذلك بتفكيك المرجعيات الكبرى التي كانت تعطي لحياة الإنسان وسلوكه المعنى والجدوى والتوجيه. بدأ ذلك بالدين واستمر ليشمل حتى الأيديولوجيات العلمانية كالقومية والاشتراكية. لذلك فإن الإنسان لم يعد يفكر إلا في رغباته ومصالحه المادية، وهو يبحث عن إشباع سريع وغير مكلّف لتلك الرغبات والمصالح (وهذا الميل نحو الإشباع السريع هو ما يمكن أن نطلق عليه الثقافة الاستهلاكية). ما حدث لم يكن انتقالا من الحداثة إلى ما بعد الحداثة برأي زيجمونت باومان، ولكن اكتمال مسيرة الحديثة إلى نهايتها، لتظهر "الحداثة السائلة Liquid Modernity". (زيجمونت باومان، 2000) يعجز الإنسان الحديث إذن عن خوض علاقات مكلّفة، تحتاج إلى تضحيات، ولا تعد بتقديم مقابل سريع وعاجل. يبحث الإنسان عوضا عن ذلك، عن علاقات سريعة وسهلة تحقق له الإشباع الآني والمؤقت. يظهر ذلك في تغير مفهوم الزواج في المجتمعات الحديثة مثلا، حيث فقد الزواج معناه كعلاقة اجتماعية تشمل المصاهرة والارتباط العاطفي والمسئولية المشتركة، وحلت محله العلاقات الفردية التي لا تحمل قيودا كثيرة. العلاقات التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا هي نموذج آخر وجيد لهذا النوع من العلاقات التي يبحث عنها هذا الإنسان. (زيجمونت باومان، 2003)
(2) الحداثة الانعكاسية
يختلف كذلك كل من أنطوني جيدنز Anthony Giddens وأولريش بك Ulrich Beck وسكوت لاش Scott Lash أننا لسنا أمام ما بعد الحداثة، وإنما أمام حداثة ثانية، أو حداثة تقوم بتحديث نفسها، لذا فهي انعكاسية Reflexive Modernity (بك، جيدنز ولاش، 1994).
فيما يخص العلاقات الاجتماعية مثلا، يرى جيدنز أن العلاقات الاجتماعية الحميمة (كالحب والزواج) جرت دمقرطتها، أي تحولت إلى علاقة ديمقراطية، لا تخضع لقانون خارجي أو رقابة أو سلطة مؤسسة، وإنما تقوم على العلاقة العاطفية بين الطرفين، وبكامل إرادتهما. يضع جيدنز بهذا الصدد مفهوم "الجنس التجميلي Plastic Sexuality" ويعني به جيدنز الجنس الذي لا ينطلق من دافع التكاثر. ويرى جيدنز أن هذا النوع من الجنس جرى تعميمه بفضل ان
المراجع:
-
R. W. Emerson, Self-reliance.
https://genius.com/Ralph-waldo-emerson-self-reliance-annotated
-
F. Tonnies, Community and Civil Society, J. Harris (ed.), Cambridge UP, 2001 (1887).
-
M. Weber, Class, Status, Party. H. H. Gerth & C. Wright Mills, From Max Weber: Essays on Sociology, Routledge, 2001 (1948).
-
إميل دوركايم، في تقسيم العمل الاجتماعي، حافظ الجمالي (ترجمة)، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1982 (1893).
-
إميل دوركايم، الانتحار، حسن عودة (ترجمة)، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة – دمشق 2011 (1897).
-
نانسي هيوستن، أساتذة اليأس: النزعة العدمية في أوروبا، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2012.
-
C. Lasch, The Culture of Narcissism: American Life in an Age of Diminishing Expectations, New York: Norton; Revised edition (May 1991
-
زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، حجاج أبو بكر (ترجمة)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2016 (2000).
-
زيجمونت باومان، الحب السائل، حجاج أبو بكر (ترجمة)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2016 (2003).
-
Beck, Ulrich, Giddens, Anthony, Lash, Scott (1994) Reflexive Modernization. Politics, Tradition and Aesthetics in the Modern Social Order. Stanford University Press.
-
A. Giddens (1992) The Transformation of Intimacy: Sexuality, Love and Eroticism in Modern Societies. Cambridge: Polity.