إذا كان الاكتئاب ليس مرضًا عضويًا، فما هو دور مضادات الاكتئاب؟ وهل لها تأثير سلبي على المدى البعيد؟

يلجأ الأطباء النفسيين لمضادات الاكتئاب أحيانًا، وأحيانًا يلجأ لها المريض مع الاعتياد، فهل تسبب إدمان؟ وإلى أي مدى تسبب خطورة على المريض؟ أو كيف يمكن معرفة ما إذا كانت حالة الاكتئاب تستدعي فعلًا مضادات للاكتئاب


هناك العديد من مضادّات الاكتئاب التي تنتمي لعائلات مختلفة من الأدوية وتعمل بطرق متباينة جدّا، وبالتّالي فالتعميمات بخصوص فعاليّة الأدوية أو أعراضِها الجانبيّة او ما يتعلّق بها خاطئة في الغالب.

  1. بعض الأدوية المشهورة على أنّها مُضادّات اكتئاب تُستخدَم لأغراض مختلفة تماما، مثل الصّداع وبعض أنواع الألم المزمن والأرق والقلق والوسواس .. وبعض الأدوية المشهورة باستخداماتِها الأخرى، مثل مُضادّات الذُّهان ومثبّتات المزاج، يُمكن أن تُستخدَم في الاكتئاب .. بالتّالي فاستنتاج تشخيص شخص من الدواء الذي يأخذُه غير صائب .. لا ينبغي أن يكون اخذ مضادّ اكتئاب أمرا مُحرجا لأحد، ولكن في حال علمك بأنّ قريبا أو صديقا يأخذ ما تعرف أنّه "مُضادّ اكتئاب" فهذا لا يكفي لاستنتاج أنّه يُعاني من الاكتئاب .

  2. فعالية مُضادّات الاكتئاب متفاوتة ولكنّها ليست عالية جدّا .. المشكلة أنّ الاكتئاب متلازمة معقّدة يغلبُ على ظنّنا أنّها نتيجة يُمكن الوصول إليها عبر مسارات مختلِفة، فضلا عن أن هذه المتلازمة ليست متجانِسة رغم وجود سمات عامّة لدى من يمرّون بها .. بالتّالي فلدينا ظاهرة عامّة غير مفهومة جيّدا ولها أسباب مفترَضة كثيرة ومتنوّعة ونُطلِق عليها اسم "الاكتئاب" .. بطبيعة الحال، ليس متوقَّعا لدواء واحد او عائلة دوائيّة واحدة أن تُعالج هذه الظّاهرة، وهذا ينعكس على نسب الاستجابة المتدنّية في التجارب السريريّة .. يعتقدُ كثير من الأطبّاء النفسيّين وعلماء الأعصاب أنّنا لو استطعنا تصنيف الاكتئاب إلى أنواع فرعيّة أكثر تجانسا sub-types فسيكونُ بإمكاننا الحصول على علاجات أنجع.

  3. يتّخذُ كثيرون من تدنّي نسب الاستجابة لمُضادّات الاكتئاب في الدراسات دليلا على أنّ الاكتئاب ليس شيئا عُضويّا أو مادّيا من الأصل، وأنّه مشكلة روحيّة لا يُمكن علاجُها بالأدوية .. هذه قضيّة فلسفيّة طويلة وشائكة ومبنيّة على جملة من الافتراضات التي يمكن نقدُها، بدءا من ثنائية الروحي والمادّي وانتهاء بافتراض أنّ عدمَ نجاعة علاج مادّي ينفي أيّ وجه مادّي للظاهرة .. رأيي المُختصَر في المسألة أنّ الاكتئاب ظاهرة مُعقّدة لها جانب مادّي، قد يكون هو المدخل أو أحد المداخل لعلاجِها في بعض الحالات، وبالتّالي فالأدوية خيار معقول ومناسب ويوفّر كثيرا من المعاناة، ويجبُ علينا بذل الجهد الممكن لفهم الظاهرة بشكل أفضل، لكن عدم علاجِها وترك البشر يُعانون من أجل موقف فلسفيّ هو أمر تشوبُه اللاأخلاقيّة من وجهة نظري ..

  4. ما تُشيرُ إليه الدراسات هو أنّ استخدامَ الأدوية يكونُ أكثرَ نجاعة كلّما كان الاكتئاب أكثر شدّة، ولذا، فاستخدام الأدوية قد لا يكونُ مفيدا في الاكتئاب الطّفيف أو المتوسّط.

  5. المزجُ بين الأدوية والعلاج النّفسيّ يُعطي نتائجَ أفضلَ من كلٍّ منهما على انفراد .. هذا لا يعني أنّ كلّ حالة اكتئاب تتطلّبُ اشتخدامَ العلاجين معا، بل يعني أنّه إذا كانت الحالة تستدعيهما معا، فالمزجُ بينهما يأتي بنتائجَ أفضل .

  6. يتفاوت موقفُ النّاس من فكرة استخدام الأدوية في الاكتئاب تفاوتاً شديدا حسبَ الشخص ومن مجتمَعٍ لآخر .. من ملاحظة شخصيّة، في الولايات المتّحدة، حيث يُعامَل الاكتئاب كمرض عضويّ تقريبا، حين يُخبرُ الطّبيب بعضَ المرضى أنّ اكتئابَهم قد لا يكون بحاجة لأدوية وأنّه ينصحُ بالعلاج النّفسيّ، قد يُقابلُ بعضُهم ذلك بانزعاج إذ يفهمُون ذلك على أنّه تقليل من معاناتِهم ومن جدّيّة حالتِهم .. أمّا في مجتمعاتِنا فيبدو -من استقراء شخصيّ أيضا- أنّ المُصابين بالاكتئاب يُقابِلون ذلك بارتياح، وأظنّ أنّ من أسباب ذلك ارتباط الأدوية بوصمة أكبر أو بحالة أكثر صعوبة، وربّما الشّعور بأنّ عدم وصف الأدوية يعني الاعتماد على العلاج النّفسي في التعافي، وبالتّالي إعطاءَ قيمةٍ أكبرَ لحديثِهم عن مشاعرِهم ومشكلاتِهم وظروفِهم، أما الاعتماد على حبّة دواء بشكلٍ أساسي فقد يعني لهم أنّ عليهم سردَ أعراضِهم بطريقة طبيّة تقنيّة فحسب دون إعطاء أهمّية كافية لحديثهم ومشاعرهم وظروفهم الخاصّة .

  7. حتّى ولو توصَّلنا لعلاجاتٍ نفسيّة توازي فعالية الأدوية أو تتفوّقُ عليها، تظلّ هناك مشكلةُ توفّر المعالجين النّفسيّين .. العلاج النّفسيّ يتطلّبُ جلسة أسبوعيّة على الأقلّ في العادة، أمّا مراجعةُ الطبيب من أجل الأدوية فيمكنُ أن تتمّ كلَّ شهر بل بفاصل زمنيّ أكبر عند استقرار الأمور .. هذا يعني أنّ العلاجَ النفسيّ أكثرُ كلفة ويحتاجُ عددا أكبر من المتخصّصين، ويتطلّبُ وقتا والتزاما أكبر من جهة المتعالِج .. هذه كلُّها يجبُ أن توضَعَ في الحسبان عند الحديث عن الاكتئاب في مجتمعِنا وجميع المجتمعات.

  8. بعضُ المُصابين بالاكتئاب يُفضّلون الأدوية حتى لو كان متاحا لهم الحصول على العلاج النّفسي، لأنّهم لا يُريدون الخوضَ في تفاصيل معاناتِهم والحديث المفصّل عنها، بل يُفضّلون حبّة كلّ يوم رغم الأعراض الجانبيّة والفعاليّة المحدودة .. هذا قد لا يكونُ الخيارَ الأكثرَ مناسبة لهم، لأنه يُفوّتُ عليهم فرصة فهم معاناتِهم وأسبابِها وعلاج بعضِ أسبابِها بطريقة أكثر جذريّة وأكثر استدامة .. مثلا، من يعودُ اكتئابُه إلى طفولة سيّئة أو علاقة زوجيّة متدهورة أو ضغوط شديدة في العمل أو ما شابه، من مصلحتِه أن يكتشف هذه الأسباب ويُعالجَها لأنّ هذا قد يُعالجُ أسبابَ المعاناة، وهذا أفضلُ بطبيعة الحال من تناول حبّة دواء والإبقاء على مصادرِ الاكتئاب كما هي بلا تغيير .. لكن في النّهاية، ينبغي أن تكون الخيارات كلُّها متاحة للمُصاب بالاكتئاب طالما أنّ هناك سندا علميّا لها .

  9. في أحسن الأحوال، مُضادّات الاكتئاب تُقلّلُ من أعراض الاكتئاب وتحسّنُ المزاج إلى درجة تقتربُ من المزاج العاديّ قبلَ الاكتئاب .. هذا هو غايةُ ما يطمحُ إليه الطبيب .. لكنّها لا ترفعُ المزاج فوقَ ذلك ولا تُسبّبُ السّعادة ولا تُحوِّلُ الشخصّ ذا الطّبع السلبيّ إلى إيجابيّ ولا الخجول إلى نجمٍ اجتماعيّ .. بالتّالي، كلُّ ما يُتداوَلُ عن نتائجَ سحريّة وفائقة لا أصل له.

  10. مُضادات الاكتئاب لا تُسبّبُ الإدمان، لكنّ أخذَها لفترة يُجعلُ من وقفِها فجأة أمرا خطِرا .. إذا وُصِفت مُضادّات الاكتئاب ثمّ تقرّرَ إيقافُها، فيجبُ أن يتمّ ذلك ببطء وتدريج وإشراف طبيب ..

أضف إجابتك

cloud_upload

جار الرفع... ({{imageUpload.progress}})

أرسل إجابتك كعضو
أرسل إجابتك كزائر

اطرح سؤالك على مجتمع التعلم واحصل على أجوبة من خبراء

الإشعارات

أغلق
جار تحميل المزيد
لا توجد إشعارات