هل تعتبر عملية انتقاد الفنون الشعبية القادمة من الطبقات الاجتماعية الفقيرة نوعًا من العنصرية أو دفع المجتمع نحو البرجوازية ؟

أنت تشاهد إجابة منفردة، يمكنك استخدام الزر المجاور لتصفح جميع الإجابات.

اطلع على جميع الإجابات

ينبغي في البداية أن نميز بين جمالية الفن في حد ذاتها، وبين سوسيولوجيا الفن أو الظروف الاجتماعية التي قد تدفعنا إلى الإعجاب بعمل فني ما والنفور من عمل آخر.

اتجهت الماركسية في صيغتها السوفيتية وبعض صيغها الأخرى إلى اختزال العمل الفني في مضامينه الطبقية، بحيث يكون العمل الفني الجيد هو العمل الذي يمجد الطبقة العاملة ويبرز كفاحها ويقصد إلى تأكيد المقولات الاشتراكية والدعوة إلى قيمها (يمثل كتاب "في الثقافة المصرية" للناقدين الماركسيين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس تعبيرا جيدا عن هذا الاتجاه). لاحقا تطور النقد الماركسي بعيدا عن ذلك المذهب الاختزالي (راجع مقالة "قراءة نقدية لكتاب في الثقافة المصرية" لسامح نجيب على موقع مركز الدراسات الاشتراكية).

يمكننا أن نرى نسخة مقلوبة من تلك الاختزالية لدى بعض المحافظين الذين يرون أن فنية العمل مرهونة بأخلاقية مضامينه، فإذا كان العمل الفني يحض على أخلاق قويمة فهو عمل جيد، والعكس بالعكس.

كذلك تذهب بعض المذاهب النقدية الحديثة (ما بعد البنيوية) إلى إعطاء دور واسع للمتلقي في تفسير العمل الفني، بما يجعل فنية العمل رهينة بالظرف الذي يحدد استجابة المتلقي. وتمثل النسبية الفنية صيغة قصوى لهذا التطرف عندما ترى أن جمالية الفن لا وجود لها موضوعيا وإنما هي محض مسألة ذاتية تتعلق بذوق كل فرد على حدة.

تهدر تلك الاتجاهات قيمة الفن وخصائصه الموضوعية التي تجعل منه عملا فنيا بغض النظر عن مضمونه، فأي قصيدة ليست فقط مجموعة من المعاني، وإنما هي أيضا وزن شعري وقافية وصور ولغة، أي شكل شعري يحمل المضامين أو الأغراض التي للقصيدة من مدح أو هجاء أو رثاء أو غزل، ويمكن لقصيدة تمتدح الصدق أن تكون بنفس درجة الجمال الذي لقصيدة تمتدح الكذب.

عندما نتناول سوسيولوجيا الفن فإننا لا نتحدث عن قيمة العمل الفني أو خصائصه وإنما عن الظروف الاجتماعية التي تحدد الذائقة الفنية للجمهور وتجعله يفضل أعمالا فنية معينة على أعمال فنية أخرى.

يعد عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هو رائد هذا الحقل. يرى بورديو أن ذائقة كل طبقة اجتماعية تنشأ نتيجة للتعود (الهابيتوس) الذي يتربى الفرد في سياقه. يحدد الهابيتوس ميول الفرد دون أن يعي الفرد ذلك. ولكل طبقة اجتماعية الهابيتوس الخاص بها. وتعمل البرجوازية الثقافية على حماية الرأسمال الرمزي الذي لديها عبر التأكيد المستمر لرقي وتميز الأشكال الفنية التي تفضلها وفق الهابيتوس الخاص بها في مقابل التبخيس من قيمة الأشكال الفنية المختلفة.

بحسب بورديو إذن، من المتوقع أن ترفض البرجوازية الثقافية باطّراد الأشكال الفنية الجديدة في بدايتها، وتتهمها بالرداءة، لحماية رأسمالها الرمزي. تحتاج تلك الأشكال الجديدة إلى أن تكافح لإثبات ذاتها، وبمرور الوقت تتحول تلك الأشكال الجديدة نفسها إلى الأشكال المستقرة والمتبناة من البرجوازية الثقافية الجديدة.

بالعودة إلى سؤالك بعد تلك المقدمة، فمن الصحيح أن رفض الفنون التي تنشأ لدى الطبقات الشعبية (المهرجان مثلا وأغاني التراب) يكون مدفوعا بخوف البرجوازية الثقافية (وليكن هاني شاكر مثالها مثلا) ونزوعها إلى حماية الرأسمال الرمزي لها.

لكن ما أردت التنبيه إليه خلال تلك المقدمة هو أن رفضنا لموقف البرجوازية الثقافية الطبقي تجاه تلك الفنون لا ينبغي أن يدفعنا إلى التعجل في الاصطفاف مع ذلك الفن الشعبي باعتبار ذلك موقفا ثوريا في حد ذاته. فنحن بحاجة أولا إلى أن ننظر في الأشكال الفنية الجديدة وخصائصها الفنية لنرى هل تمثل بالفعل ميلاد شكل فني جديد يملك قدرات تعبيرية مختلفة عن الأشكال الفنية القديمة أم أن تلك الأشكال الفنية الجديدة ليست سوى ابتذالات لأشكال فنية قديمة وقائمة بالفعل أو أنها أشكال فنية محدودة القدرات وبسيطة بحيث يصعب تطويرها.

إذا أخذنا مثلا شعر التفعيلة، فعلى الرغم من الرفض النقدي الذي لاقاه شعر التفعيلة في ميلاده المبكر، إلا أنه أثبت بمرور الوقت قدرة على تطوير نفسه وقدراته التعبيرية وموضوعاته، مما مكّنه من تجاوز النقد المبكر الذي تعرض له، وأن يتحول إلى الشكل الفني السائد أو الموازي للشعر العمودي؛ ولا يمكن لأحد اليوم مهما كانت ميوله أن يرفض إرثا هائلا لشعراء عظام من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب مرورا بنزار قباني ومحمود درويش وأمل دنقل وإلى بعض أشعار تميم البرغوثي وأحمد بخيت اليوم.

في المقابل، يمكن لناقد موسيقي اليوم أن يرى أن فن التراب (مروان بابلو وويجز ودي جي مولوتوف) لم يستطع أن يقدم شيئا مختلفا عن الراب من الناحية الموسيقية البحتة، أو أن الإمكانات التعبيرية للتراب محدودة بما يجعل من الصعب عليه التعبير عن كثير من الموضوعات. كما يمكن لناقد أن يرى في موسيقى المهرجانات (فيجو الدخلاوي وعلاء فيفتي) شكلا موسيقيا جامدا ومبسطا للغاية من التكنو والراب، وبالتالي فهو شكل غير أصيل، وضعيف مقارنة بالأشكال الموسيقية الكلاسيكية التي تمتلك إمكانات أكثر (يعني مثلا يمكن إنتاج معزوفات كلاسيكية متنوعة ومختلفة أكثر بكثير من عدد المعزوفات المتنوعة والمختلفة التي يمكن لشكل المهرجان أن ينتجها، وبالتالي الشكل القديم أكثر ثراء في إمكاناته الفنية).

مرة أخرى، ينبغي أن نميز بين الدلالة الاجتماعية لظهور شكل فني جديد ولرفض البرجوازية الثقافية لهذا الشكل، وبين مدى الجودة الفنية الفعلية لهذا الشكل الفني.

اطرح سؤالك على مجتمع التعلم واحصل على أجوبة من خبراء

الإشعارات

أغلق
جار تحميل المزيد
لا توجد إشعارات