هل تساهم القرارات الحكومية او الرقابية بمنع بعض الأعمال الفنية أو بعض الشخصيات من الظهور في الحد من انتشار هذه الأعمال أم أنها تساهم في لفت النظر إليها وزيادة عدد جمهورها ؟
أنت تشاهد إجابة منفردة، يمكنك استخدام الزر المجاور لتصفح جميع الإجابات.
اطلع على جميع الإجاباتيبدو للوهلة الأولى أن منع عمل ما قد يؤدي عكسيا إلى رواجه، لكن أثر المنع يختلف بحسب ظروف كثيرة، وليس صحيحا أن المنع غير مؤثر، أو أن الفكرة لا تموت.
يمكن أن نحدد مجموعة عوامل تحدد أثر المنع على رواج العمل الفني:
طبيعة المنع: هل منع العمل كان جادا أم أنه كان منعا صوريا؟ مثلا، إذا منعت إذاعة أغنية ما في الراديو الذي لم يعد وسيلة الإذاعة الأبرز للأغاني، فإن ذلك لا يؤثر فعليا على الأغنية وانتشارها. كذلك، يوصي الأزهر أو مجمع البحوث الإسلامية أحيانا بعدم نشر بعض الكتب، لكن تتم طباعة تلك الكتب لاحقا بدون تصريح الأزهر أو مجمع البحوث، بما يجعل المنع عمليا منعا صوريا.
الشرائح المستهدفة: من المستهدف من وراء العمل؟ عندما تكون الفئات المستهدفة هي عامة الجمهور، فإن قيام سلطة ما سواء كانت رمزية كالسلطة الدينية أو سياسية بمنعه، قد يؤدي إلى نفور كثير من الناس من هذا العمل، نظرا لأن كثيرا من الجمهور العام يحترم تلك السلطات ويثق فيها.
سبب المنع: كيف تبرر السلطة منعها للعمل؟ هناك فارق بين أتهم عملا بأنه ينشر الفاحشة أو الكفر، فهذا أمر يختلف عن اتهامه بأنه يسيء للحكومة أو لشخصيات عامة، أو بأنه يسيء للفن، لأن قيمة الفن أو احترام الحكومة لدى الجمهور لا وجود لها أو هي ضعيفة إلى درجة لا تجعلهم ينفرون من مطالعة عمل ما، بخلاف نفورهم من الأعمال التي فيها تهجم على مقدسات دينية، أو حتى نقد لعقائد مستقرة.
لنأخذ مثلا قرار منع مطربي المهرجانات مؤخرا، هذا القرار هو صوري إلى حد ما، لأن المنصة التي يتم إطلاق أعمال هؤلاء المغنين عليها هي أصلا منصة لا تقع تحت سلطة من يقوم بالمنع، كذلك جمهور المهرجانات ليس هو الجمهور الذي يكن تقديرا للسلطة النقابية التي قامت بالمنع، وأخيرا فإن تسبيب المنع بكونها أعمالا رديئة فنيا أو تخالف الذوق أو الآداب العامة ليس كافيا لتنفير الجمهور منها.
مع ذلك، فقرار المنع له أثر مهم، هو منع الأداء العلني لتلك الأعمال، مما يؤثر على مكاسب أصحابها بالتأكيد، وبالتالي يؤثر على اتجاه المنتجين إليها نظرا لفوات أحد مصادر الربح عليهم إذا اتجهوا إلى تلك الأعمال وحاجتهم إلى تعويضات ضخمة من مصادر أخرى لتعويض ذلك المنع.
...
إذا انتقلنا للحديث عن أخلاقية قرار المنع نفسه وجدواه فيمكن أن نلخص بعض النقاط كما يلي:
يرى الليبراليون أن منع أي عمل فني هو أمر غير أخلاقي (بالمعنى السياسي أو العمومي للأخلاق الذي يتضمن مثلا احترام الحريات الشخصية والعامة، ومنها حق النشر)، بينما يوافق سائر أصحاب الأيديولوجيات على المنع مع اختلاف مبررات المنع عندهم.
وبشكل عام يمكن أن نميز بين من يبررون المنع بأسباب تعود إلى العقل العام، وبين من يبررون المنع بأسباب أيديولوجية.
فمثلا الإسلاميون يرون منع الأعمال التي تشكك في العقائد الإسلامية، ويبررون ذلك بحفظ دين المسلمين. هنا يحتج المخالفون بأن هذا السبب لا ينتمي إلى العقل العمومي، أي لا يمكن أن يقبل بهذه الحجة إلا من يرى مع الإسلاميين أن حفظ دين المسلمين هو واجب على السلطة السياسية، وهو ما لا يراه الغالب الأعم من العلمانيين، لذلك لا يتفقون مع منع الكتب التي تشكك في العقائد الإسلامية، ويرون أن حجة الإسلاميين هنا أيديولوجية.
الشيوعي كذلك قد يقرر منع كتاب معين لأنه يروج للأفكار البرجوازية التي قد تطيح بسلطة الطبقة العاملة وبالتالي تؤدي إلى استغلالها. وهذا ما حدث في كل التجارب الشيوعية تقريبا إلى الآن. هذا بالطبع مبرر أيديولوجي لا يمكن أن يوافق عليه أي مثقف غير شيوعي.
في المقابل، يمكن أن تقرر السلطة منع كتاب يصف طريقة معينة للانتحار، أو لتصنيع أسلحة خطيرة، وتبرر ذلك بحرصها على سلامة كافة المواطنين، وحينئذ قد يتفق الجميع، وربما بما في ذلك الليبراليون مع هذا القرار، لأن هذا القرار يجادل على أساس العقل العام، أي العقل الذي يتفق عليه الجميع بصرف النظر عن مواقفه الأيديولوجية (راجع في ذلك مثلا بحث "الليبرالية السياسية عند جون رولز" لعادل ضاهر ضمن كتاب "نقد الفكر السياسي الغربي" (دار بيسان، 2018))
يمكن للإسلامي أو المسيحي أو الشيوعي الذي يبرر منعه لكتاب ما بأسباب أيديولوجية أن يحاول تحويل أسبابه الأيديولوجية إلى أسباب عمومية. فمثلا قد يطالب مسيحي بمنع كتاب إسلامي ينتقد العقائد المسيحية ليس لحماية دين المسيحيين، ولكن يبرر ذلك بأن هذا الكتاب قد يثير فتنة طائفية. ويمكن للإسلامي أن يبرر منع كتاب يسيء لمقدس إسلامي بأن هذه الإساءة فيها تهجم على حق ملايين المسلمين في احترام مقدساتهم، وهو حق لغيرهم من أصحاب الأديان، فعلى الجميع ألا يسيء إلى المقدسات الدينية لمختلف الأديان، وأن يكون النقد في حدود النقد العلمي والموضوعي.
مثلا، في قضية مطالبة كتلة الإخوان البرلمانية بمنع رواية "وليمة لأعشاب البحر" في مصر، في مطلع الألفية، انتقد السلفيون الموقف الإخواني لأنهم رأوا أن الإخوان برروا مطالبتهم بأن الرواية تسيء إلى المقدسات الدينية لملايين المصريين، كما أن المطالبة اقتصرت على ألا يتم نشر تلك الرواية على نفقة الدولة كما أرادت وزارة الثقافة حينها أن تفعل، بينما كان يود السلفيون أن تنطلق المطالبة من رفض أي إساءة للإسلام، دون المسيحية مثلا التي يدين بها كذلك ملايين المصريين، وأن يكون المنع عاما سواء كان النشر حكوميا أو خاصا.
على الرغم من الموقف الليبرالي الذي يرى عدم أخلاقية المنع بإطلاق هو موقف يمكن انتقاده من خلال أمثلة تبين أن المنع يمكن تبريره أحيانا حتى ضد الحريات (مثلا منع المخدرات رغم أن تعاطي المخدر هو حرية شخصية)، لأن الحرية الشخصية لا تتسق دوما مع الأخلاق، والأخلاق رغم أنها نسبية إلا أن كثيرا منها يبقى ضروريا للانتظام العام؛ فانتشار المخدرات والخمور مثلا قد تكون له عواقب اجتماعية كارثية لا يمكن احتمالها دفاعا عن الحريات الشخصية؛ على الرغم من ذلك، إلا أنني أميل إلى هذا الموقف في رفض المنع.
هذا الميل أبرره بأن فتح باب المنع السلطوي، خاصة في بلدان كبلداننا، يؤدي بمرور الوقت إلى إلغاء الحرية نهائيا، وليس فقط الانحياز إلى بعض المواقف الأخلاقية في قضايا تفصيلية على حساب الحرية الشخصية.
يستعاض عن ذلك بالمقاطعة الاجتماعية، فإذا كانت هناك رواية أو فيلم أو أغنية فيها مثلا تهجم على المقدسات، فإن المجتمع يمكنه أن يقاطعها ويقاطع منتجها.
يمكن أن نشير أخيرا إلى أن الحضارة الإسلامية تضمنت حقبا ممتدة ازدهرت فيها الكتب السجالية بين الأديان والأعمال الفنية المتوسعة في نقاش الجنس أو غيره من القضايا الحساسة، دون أن تتدخل السلطة في ذلك بسبب من قصور تلك السلطة عن التدخل غالبا، وأحيانا بسبب ثقة السلطة المفرطة في هيمنتها، لكن المقصود أن ذلك كان سببا في ازدهار ونمو المعرفة والحضارة الإسلامية، ولم يؤد إلى فساد الدين، بل أخرج لنا أعمالا عميقة في الحجاج عن الإسلام، فقد تبلور الفكر المعتزلي الإسلامي مثلا في إطار المناظرة مع المسيحية والأديان الأسيوية في العصر العباسي الأول.